عرض مشاركة واحدة
قديم 08-15-2016, 12:25 PM   #3
صمت الحزن
| عضو متألق |


الصورة الرمزية صمت الحزن
صمت الحزن غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 3210
 تاريخ التسجيل :  Aug 2016
 أخر زيارة : 01-11-2019 (03:55 PM)
 المشاركات : 1,542 [ + ]
 التقييم :  127
 الجنس ~
Female
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Black
افتراضي




وخلاصة ما سبق:

أن الاعتبار النبوي في ترك عقوبتهم «لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» مع المجاهرين من المنافقين يرجع لأمرين:
الأول: أن مجاهرتهم لم تكن من قبيل الكفر المحض الذي يثبت نفاقهم، وإنما هو من قبيل التعريض، فإقامة العقوبة عليهم ستكون مشتبهة كما سبق في المنافقين المستترين لأن الناس لا يعلمون حقيقة جرمهم الذي يستحقون به العقوبة.
الثاني: أن مجاهرتهم كفر ثابت عليهم، وإنما ترك عقابهم مع هذا لوجود الاشتباه الذي يتحقق معه مفسدة أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
وعلى هذا القول فإن هذا حكم منسوخ، كان في أول الإسلام وضعف المسلمين الذي كان يتحقق معه غلبة مفاسد إقامة مثل هذا الحكم، وقد زال هذا فلا يكون ثم حاجة لترك إقامة هذه الأحكام بسبب هذه المفسدة.
إلا أن هذا لا يمنع من إعمال الحكم حين يحدث من الضعف والحاجة مثل ما حدث في أول الإسلام.

قال ابن تيمية:

«فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة والسلام إذًا لا نسخ بعده»[16].

وقال:
«فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام، أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق، وهذان المعنيان حكمهما باقٍ إلى يومنا هذا، إلا في شيء واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم»[17].

الحدود السائغة في الإعمال الفقهي لهذا الموقف السياسي النبوي:

حين يأتي أحد فيستدل بالسياسة النبوية «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» في سياق تعطيل أي حكم شرعي معاصر بدعوى نفور الكفار وتكذيبهم، فهو يقع في خطأ كارثي لم يتفطن له، هو أنه نظر في مفهوم الحديث منعزلًا عن بقية أحكام الشريعة، فقاس نفور الناس عن الشرع في هذه المسائل على نفورهم في تلك الواقعة النبوية فوجد أن الاستدلال وجيه جدًا، وهو فعلًا كذلك لو لم يكن عندنا إلا هذا الحديث، لكنَّ هذا قصور علمي لا يدخل في بنية تفكير الفقيه الذي ينظر إلى نصوص الشرع جميعًا، وحينئذٍ ستجد أن ثمت مساحة واسعة جدًا من الأحكام الشرعية قد حافظت عليها الشريعة ولم تلتفت للمعترضين والشامتين والساخطين، ولا لأمواج التشويه والافتراء التي تعقب قيامها، ومن ذلك بإجمال واختصار شديدين:
- الأحكام الشرعية التي فيها شدة وصرامة في التطبيق، من الرجم والجلد والقطع، التي كانت تقام من دون أي اعتبار لمواقف الناس منها.
- بل شرعت الشريعة الجهاد في سبيل الله، وقتال الكفار وغنم أموالهم وسبي نسائهم وإقامة الشرع في بلدانهم، وبطبيعة الحال أن من تتخذ منه هذا الموقف لن يحمل في نفسه إلا غاية ما يمكنه من كره وعداء ونفور.
- قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم لرؤوس الكفر الذين عادوه، ككعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأهدر دماء بعض المحاربين يوم فتح مكة، وقتل بعض الأسرى، وهي أفعال شديدة على النفوس غير المؤمنة.
- الأمر القرآني بجهاد المنافقين والإغلاظ عليهم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، وقال سبحانه: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْـمُرْجِفُونَ فِي الْـمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]، وهو ما جعل المنافقين يستترون بكفرهم خشية من العقاب.
- بل أصل الإسلام كله وهو عبادة الله وحده، والإيمان برسوله، والإيمان بكتابه، وغيرها من الأصول كانت تثير عداء الكفار وغضبهم وسخطهم على المسلمين، فإعمال التفكير بهذه الطريقة يؤدي لإلغاء الإسلام كله.
- بل مع هذا كله، فقد اتفق الفقهاء كلهم على وجوب قتل ساب الرسول، وهي الصورة ذاتها التي عفا عنها الرسول، من دون أي اعتبار منهم لتأثير لهذه العلة.
هذه بعض الأحكام التي تثبت يقينًا أن إعمال هذا الفهم على أي حكم شرعي بدون حدود متقنة غلط محض، وأن ذريعة نفور الكفار من الإسلام لا يجوز أبدًا أن تكون سببًا لتعطيل أحكام الشريعة أو بعضها، وأن تشويه الكفار للأحكام يوجب علينا الدفاع عنها وشرحها وبيان حسنها والدعوة إليه لا أن ندفنها خجلًا منها.

ولذا فهذا التفكير قد اتسع عليه خرق الغلط من جهتين:

الجهة الأولى: أنه وسع مراعاة نفور الناس إلى مساحات لم تراعها الشريعة، بل ثبت قطعًا أن الشريعة أهملتها ولم تعتبرها.
الجهة الثانية: أن ما راعته الشريعة كان في حكم شرعي معين، تُرِكَ تطبيقه عن شخص معين، جعلوه أصلًا كليًّا لتعطيل الأحكام كلها، ولم يجعلوه خاصًا بحالة معينة فقط.

إذا تقرر فساد منطق هذا الاستدلال، فما الحدود الفقهية المعتبرة في إعمال هذا الحديث؟
الواجب في معرفة هذه الحدود أن تكون مراعية لحدود ذات ما أعمله النبي صلى الله عليه وسلم، وحين ننظر في هذه الواقعة، يمكن أن نحصر حدودها في:

- تنزيل حكم شرعي على معين أو في حالة معينة.
- وجود اشتباه في استحقاقه للحكم.
- وجود مفسدة قوية غالبة، في مستوى نفورٍ عام عن الإسلام بسببه تصل لحد اعتقاد أن الرسول يقتل أصحابه فيخشى أن ينال هذا العقاب من يقتل الرسول؛ فالحكم الشرعي الذي يكون تطبيقه بهذا المستوى يكون مندرجًا ضمن السياق السائغ في إعمال الحديث.

وعليه فيخرج هنا:
من يعطل ذات الأحكام كليًا، أو يكون مراعيًا لمفاسد التطبيق إلى الحد الذي يلغي معه أصل التطبيق.

ويخرج منه أيضًا:
الأحكام الظاهرة التي لا يوجد اشتباه فيها، بحيث يكون الاعتراض على ذات الحكم لا على الاشتباه.

وأيضًا يجب أن تكون المفسدة قوية لحد ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مع ملاحظة طبيعة المفسدة بحيث يكون الإعمال الفقهي مستحضرًا لها، فهي متعلقة بمفسدة إلى حد أن يظن الكافر أنه سيقتل لو دخل في الإسلام، ومثل هذه المفاسد لا تكون إلا في جنس معين من الأحكام كعقوبة الردة، ومن جنس معين من الناس وهم الكفار، ومثل هذه المفسدة لا توجد غالبًا في إقامة الحدود أو في مثل فرض الواجبات ومنع المحرمات على المسلمين.
وبناءً عليه، يمكن ترك إقامة حد الردة مثلًا في حالة معينة إذا ترتب على إقامته مفسدة راجحة توهم أن الشخص قُتل مظلومًا، لكن لا يقاس عليه منع إقامة قطع يد السارق خشية من طعن من الناس في عقوبة السرقة نفسها، لأن الأمر لا اشتباه فيه أصلًا، وهو متجه إلى الحكم ذاته لا إلى التطبيق في حالة معينة.
هذه هي الحدود التي يحتملها سياق حديث «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».

وأحب أن أؤكد أن البحث هنا ليس تحريرًا لحكم ترك بعض إقامة الأحكام الشرعية، وإنما هو محاولة لتحرير الاستدلال لسبب من أسباب ترك إقامة بعض الأحكام استنادًا إلى هذا الحديث، وإلا فلا بد من جمع كافة أطراف الأسباب للإجابة على هذا السؤال، وليس هذا موضع بحثه فهو يحتاج لاستقراء وتتبع أوسع.

الآثار المستفادة من هذا الموقف السياسي النبوي:

بعد تحرير القول في حدود ما يمكن إعماله من هذا الحديث لترك إقامة بعض الأحكام، فإنه يمكن الاستهداء بروح هذا الموقف السياسي النبوي في آثار كثيرة على مستويات عدة، منها:

1- العناية بسمعة الإسلام، والاجتهاد في تقديم الحجج والبراهين التي تشرح محاسن الإسلام، وتجلي فضائله، وبذل كافة الجهود لإزالة الشكوك والشبهات والتشويهات التي توجه لرسالة الإسلام.
2- مراعاة أفهام المخاطبين، ومستوياتهم، واتخاذ الأسلوب المناسب لئلا يكون لطريقة الخطاب أو زمانه ومكانه ما يؤدي لنفور عن أحكام الشرع.
ومن مراعاة أفهام الناس ترك تحديثهم أو إفتائهم ببعض الأحكام حين يترتب عليها مفسدة ظاهرة تربو على مصلحة تعليمهم، ولهذا قال الصحابي الفقيه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[18].
3- تعميق قاعدة شرعية مقررة، هي «درء الحدود بالشبهات».
4- الاجتهاد في بيان الحكم الشرعي وشرح حدوده وإزالة الغلو والتفريط المتلبس به لئلا يشتبه بغيره.
5- عدم قيام الشخص بإقامة الحدود إلا بسلطة شرعية، وبضمانات قضائية، حتى تحقق العقوبات الشرعية مقاصدها وتكون على وفق مراد الشرع منها، فلا يدخل في النفوس نفور منها بسبب إشكالات يرونها في الإجراءات، فيشتبه الحق الذي في الحكم بالباطل في الوسائل والإجراءات.

:: مجلة البيان العدد 336 شعبان 1436هـ، مايو - يونيو 2015م.


---------------------------------------

[1] أخرجه البخاري برقم (4905) ومسلم برقم (2584).
[2] أخرجه مسلم برقم (1063) وأخرجه البخاري من دون هذه الزيادة برقم (3138) و(3610).
[3] أخرجه الطبراني برقم (8100) وأصله بدون هذه الزيادة في صحيح مسلم برقم (2779).
[4] المحرر الوجيز 1/83.
[5] التحرير والتنوير 10/267.
[6] التمهيد لابن عبد البر 10/154، وانظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال 8/575.
[7] المسالك في شرح موطأ مالك 6/221.
[8] التوضيح لابن الملقن 23/408.
[9] الإشراف لعبدالوهاب 2/961.
[10] مجموع الفتاوى7/423.
[11] شرح القاضي عياض على مسلم 7/327.
[12] شرح القاضي عياض 8/55.
[13] فتح الباري 8/366.
[14] الصارم المسلول 1/243.
[15] حاشية السندي على صحيح البخاري 3/28.
[16] الصارم المسلول 1/362.
[17] الصارم المسلول 1/362.
[18]  أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح.




د. فهد بن صالح العجلان


 
 توقيع : صمت الحزن
الصمْتْ..
لا يَعْنِي المُوافَقة قَدْ يَكُون صَبْراً على وشَك النَّفاذ..!



رد مع اقتباس